"ماذا تعني بالذاكرة؟ إنك تذهب إلى المدرسة وتمتلئ بالحقائق، بالمعرفة التكنولوجية. إذا كنت مهندسًا فأنت تستخدم ذاكرة المعرفة التكنولوجية لبناء جسر. تلك هي ذاكرة الوقائع. هنالك أيضًا الذاكرة النفسانية. تقول لي شيئًا، لطيفًا أو غير لطيف، فأحتفظ به، وعندما أقابلك في المرة القادمة أفعل بتلك الذاكرة، ذاكرة ما قلتَ أو لم تقل. ثمة وجهان للذاكرة: الوجه النفساني والوجه الوقائعي، وهما دومًا متفاعلان، ولهذا يصعب التمييز فيما بينهما تمييزًا واضحًا. نحن نعلم أن الذاكرة الوقائعية أساسية كوسيلة للمعيشة، ولكن هل الذاكرة النفسانية أساسية أيضًا؟ [...] الذهن هو الذاكرة، أيًّا كان مستواه، وأيًّا كان الاسم الذي تطلقه عليه؛ الذهن نتاج للزمن، وهو مؤسَّس على الماضي [...]. نحن الآن نواجه الحياة بتلك الذاكرة، نواجه تحديًا جديدًا. التحدي جديد دومًا، لكن استجابتنا دومًا بالية لأنها نتاج الماضي [...]. عندما يكون ثمة تحدٍّ، هو جديد أبدًا، فإنك تقابله باستجابة القديم. والاستجابة القديمة تقيِّد الجديد ولذلك تشوِّهه [...]. يقول السائل: "لديَّ ذاكرة وانطباع حي عن أحاديثك السابقة. فبأيِّ معنى هذه تجربة ناقصة؟" من الواضح أنها تجربة ناقصة إذا كانت مجرَّد انطباع، أو ذاكرة، لأن الحقيقة جديدة دومًا، متحوِّلة أبدًا [...]. لِمَ صارت الذاكرة بهذه الأهمية؟ لسبب بسيط وواضح هو أننا لا نعرف كيف نحيا على نحو كلِّي، على نحو كامل في الحاضر [...]. الذاكرة تخلق الأمس واليوم والغد؛ ذاكرة الأمس تقيِّد اليوم، وبالتالي تصوغ الغد. أي أن الماضي عبر الحاضر يوجِد المستقبل. ثمة سيرورة زمنية متواصلة، هي إرادة الصيرورة. الذاكرة هي الزمن، ومن خلال الزمن نأمل بتحقيق نتيجة. أنا اليوم مجرد موظف، وإذا مُنحتُ الوقت والفرصة سأصير المدير أو المالك. نحن نأمل من خلال الزمن أن نفوز باللازمني [...]. اللازمني لا يكون إلا عندما تتوقف الذاكرة، وهي الـ"أنا" والـ"لي". إذا أبصرتم حقيقة ذلك – أي حقيقة أنه لا يمكن من خلال الزمن فهم اللازمني أو اقتباله – حينئذٍ يمكن لنا الخوض في مسألة الذاكرة. إن ذاكرة الأمور التقنية ضرورية، لكن الذاكرة النفسانية التي تحتفظ بالذات، بالـ"أنا" والـ"لي"، تلك الذاكرة التي تؤدي إلى التواحُد مع الذات وإلى استمرارها، تسيء كلَّ الإساءة إلى الحياة وإلى الحقيقة [...]. أنت ترى غروبًا لطيفًا، شجرة جميلة في حقل، وعندما تنظر إليها للمرة الأولى، تستمتع بها استمتاعًا كاملاً، كليًّا؛ لكنك تعود إليها راغبًا في الاستمتاع بها من جديد. فماذا يحدث عندما تعود بالرغبة في الاستمتاع بها؟ ليس ثمة متعة، لأن ذاكرة غروب الأمس هي التي تدفعك الآن إلى العودة، وتحضك على الاستمتاع. أمس لم تكن ثمة ذاكرة، فقط إعجاب عفوي، استجابة مباشرة؛ أما اليوم فأنت راغب في التقاط تجربة الأمس من جديد. أي أن الذاكرة تحول بينك وبين غروب الشمس؛ ولهذا ليس ثمة متعة، ليس هناك ثراء من الجمال وامتلاء به [...]. وهكذا نستمر، محوِّطين أنفسنا وأفعالنا بالذاكرة؛ ولهذا ليس ثمة جِدَّة أو تجدد. لهذا السبب تجعل الذاكرة الحياة مملَّة وفارغة. نحن نحيا في صراع فيما بيننا لأن الـ"أنا" والـ"لي" يتعززان بالذاكرة. الذاكرة تحيا عبر الفعل في الحاضر، ونحن نمنح الذاكرة حياة عبر الحاضر؛ لكننا عندما نقطع عنها الحياة فإنها تتلاشى."