في إطار حديث عن حق الجوار هناك حديثان أحدهما للنبي (ص) والآخر للإمام علي بن الحسين (ع). ففي الحديث عن الرسول (ص) ((إنْ استغاثك أغثته وإنْ استقرضك أقرضته، وإنْ افتقر عدت إليه ـ أي تساعده بكل ما تستطيع أن تقدمه له من أمور مادية وغيرها فلا تهمله لأنّه أصبح فقيراً، بل لابدّ أن تقتنع بأن الغنى والفقر لا يؤثران على طبيعة العلاقة الإنسانية بين الأفراد ـ وإنْ أصابه خير هنّأته ـ لتشاركه فرحته بهذا الخير ـ وإن مرض عدته، وإنْ أصابته مصيبة عزّيته، وإن مات تبعت جنازته، ولا تستطيل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلاّ بإذنه ـ فما أصعب ذلك في أيامنا هذه، فقد يريد الجار أن يبني بيتاً من عدة طوابق وبيت جاره من طابق واحد، فيحجب عنه الشمس والهواء، في الوقت الذي ينبغي أن يأتي إلى جاره ويستأذنه في ذلك فإنْ أذن له فبها، وإلاّ فلا ينبغي له أن يستطيل ببنائه عليه فذلك حقّ من حقوقه، بحيث يعيش المجتمع نوعاً من الاحترام المتبادل ـ وإذا اشتريت فاكهة فأهدها إليه، وإن لم تفعل فأدخلها سرّاً ـ بحيث لا يتسبب ذلك في إحراجه حيث يجد نفسه غير قادر على توفير ما توفره لعائلتك ـ ولا يخرج بها ولدك يغيظ بها ولده ـ ففي ذلك نوع من الإذلال، فالطفل الصغير لا يحمل روح الاحترام للآخرين وتقدير مشاعرهم، من خلال عقليته الطفولية، فربّما يشعر أنّه يمتاز على أطفال الجيران ما يُشعر الآخرين من صغار الجيران بالمهانة، فإمّا أن تقدّم لهم مما أعطيته أو لا تدعه يخرج عليهم بها فيغيظهم، فربما يخلق ذلك نوعاً من الضغط النفسي على الطفل الآخر بحيث يجبر أهله على شراء ما لدى ابن الجيران، وقد لا يستطيعون ذلك ـ ولا تؤذه بريح قدرك الاّ أن تغرف له منها ـ والحال واحدة، فكما كانت الريح تنقل روائح القدور التي تطبخ في العراء، فكذلك الآن، وخاصة في الشقق السكنية حيث تدخل الروائح إلى كلّ دور العمارة لاسيما الروائح التي لا يرتاح لها الجار ـ إلاّ ان تغرف له منها )) فكأنّ النبي (ص) يقول إنّ كفّارة ذلك هو أنّ تغرف له من قدرك وتقدم له من طعامك. وربما كان معنى الايذاء هنا هو حالة الاشتهاء التي تسبّبها الروائح الزكية التي يثيرها الطعام اللذيذ مما قد لا يستطيع الجار أن يوفّره، فإذا ما قدّمت له من طعامك فإنّك تكون قد أشركته في طعام تسبّبت في تحريك شهيته إليه.
وأمّا في (رسالة الحقوق) فيقول الإمام علي بن الحسين (ع): ((امّا حقّ جارك فحفظه غائباً ـ بأن تحفظ سمعته من أن تُنال بسوء، وعياله من أن يتعرّضوا إلى مكروه، وداره من أن تسرق ـ وإكرامه شاهداً ـ أي حاضراً ـ ونصرته إذا كان مظلوماً ـ بأن تنصره بكلّ الوسائل التي تنصر بها نفسك ـ ولا تتبع له عورة ـ لأنّ الجار يطّلع عادة على عيوب وعورات جيرانه فهو أمين عليها ولا يجوز له أن يتتبّعها أو يتجسّس عليه في ذلك ـ فإن علمت عليه سوءاً سترته عليه ـ فإذا اطلعت عن طريق الصدفة على عيب أو نقص أو مثلبة سترتها عليه فلا تفضحه بها ولا تعيّره بها ولا تكتمها اليوم لتكشفها غداً أو تطلع غيرك عليها ـ وإن علمت أنه يقبل نصيحتك نصحته ما بينك وبينه ـ أي ليس أمام الناس أو الجيران الآخرين، فإنّ ذلك مما يزينه ولا يشينه كما حدّث الإمام الصادق(ع) في ذلك ـ ولا تسلمه عند شديدة ـ أي عندما يشتدّ عليه الزمان والمشاكل والظروف الصعبة، بل حاول أن تعينه على اجتياز مصاعبه ـ وتقيل عثرته ـ إذا أخطأ، فلا تتركه يمضي في خطئه، بل حاول أن تسدّده وتهديه إلى الصواب وأن تأخذ بيده إلى ما فيه صلاحه ـ وتغفر ذنبه ـ فإذا أذنب معك أو أساء اليك فمن حقه عليك أن تصفح عنه وتسامحه ـ وتعاشره معاشرة كريمة)) كما يعاشر الكرام بعضهم البعض.
جيران اللّه
هؤلاء هم جيران الناس، ولكن هناك جيران من نوع آخر وهم الذين اصطلحت عليهم بعض الأحاديث وفق ما جاء في القرآن الكريم بقوله تعالى ]فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ[[القمر:55] تعبير عن جوار الله، ولذا نقول عن المؤمن العامل إذا مات انتقل إلى جوار اللّه.
وفي الحديث الشريف عن رسول اللّه (ص) : ((إذا كان يوم القيامة جمع اللّه الخلائق في صعيد واحد ونادى مناد من عند اللّه أين أهل الصبر؟ـ فيأتون فيقال لهم: ادخلوا الجنّة بغير حساب ـ ثم ينادي مناد آخر: أين أهل الفضل؟ ـ فيقال لهم : ادخلوا الجنة بغير حساب، ـ ثم ينادي مناد من اللّه عز وجل يسمع آخرهم كما يسمع أوّلهم، فيقول: أين جيران اللّه جلّ جلاله في داره؟ـ فاللّه تعالى يعطيهم هذه المكرمة بأن يجعلهم جيرانه وهو الشرف كلّ الشرف والعزّ كلّ العزّ ـ فيقوم عنق من الناس فتستقبلهم زمرة من الملائكة فيقولون لهم: ما كان عملكم في دار الدنيا فصرتم به اليوم جيران اللّه تعالى في داره؟ فيقولون: كنّا نتحابّ في اللّه عزّ وجل ـ فعندما نحبّ بعضنا بعضاً فإننا نحبّ من خلال عمق العلاقة باللّه سبحانه وتعالى، لأنّ اللّه أراد للمؤمن أن يحبّ المؤمن، لا على أساس مصلحة أو غاية أو قرابة ـ ونتباذل في اللّه ـ بحيث يبذل كلّ واحد من ماله ونفسه لصاحبه ـ ونتآزر في اللّه ـ أي يؤازر كلّ واحد منا صاحبه ويساعده في شؤون البرّ ومجالات الخير والعمل الصالح، وكلّ ذلك لحساب اللّه ولأجل رضاه ـ قال: فينادي منادٍ من عند اللّه تعالى: صدق عبادي خلّوا سبيلهم لينطلقوا إلى جوار اللّه في الجنّة بغير حساب)). وهذه من أعمق الأخلاق الإسلامية التي يعيشها الإنسان المؤمن في داخل نفسه لتنعكس على حركته الاجتماعية في الحياة، فالإنسان الذي تحرّكت عاطفته ومشاريعه التعاونية والتواصلية على أساس أن يقصد بها وجه اللّه ولا يقصد بها غيره هو إنسان وصل إلى مستوى إيمانيّ رفيع في محبّته للّه تعالى بحيث انعكس ذلك على كلّ علاقاته وتحرّكاته الاجتماعية.
كما أنّ قيمة هذا السلوك الذي يرتفع بصاحبه بحيث يصبح جاراً للّه هو أنّه يشدّ المجتمع المؤمن بعضه أزر بعض بحيث يشعر المؤمن أنّ إيمانه يتحرّك اجتماعياً، وأنَّ هذا الإيمان يحميه اجتماعياً ويحقّق له المحبّة في نفوس أبناء مجتمعه من خلال التواصل الاجتماعي معهم، وبذلك ينمو الإيمان في وجدان الإنسان عندما يرى أثره في المجتمع المؤمن في الدنيا، كما ينمو إيمان المجتمع المؤمن عندما تتركز علاقاته على أساس العلاقة باللّه سبحانه وتعالى. وهذا أمر لابدّ أن نربّي أنفسنا وأولادنا عليه. لأنّ المشكلة التي نعيشها في أغلب المجتمعات غير الإسلامية، وحتى في مجتمعاتنا الإسلامية هي أن هذه المجتمعات استحالت إلى تجمعات حقد وتباغض وعداوة، بحيث لم يعد الإنسان يأمن على نفسه ولا على سمعته ولا على ماله ولا على حقوقه التي له على الناس، لأنّ العلاقات الاجتماعية أصبحت تتحرّك من خلال التعقيدات الذاتية والمصالح الشخصية، أكثر مما تتحرّك من خلال الخطوط الإيمانية.
ولعلّ هذا الواقع المأساوي الذي تعيشه مجتمعاتنا الإسلامية بلغ من التمزّق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والأمنيّ حدّاً أنّ اللّه تعالى لم يعد له أدنى حساب في علاقات الناس ببعضهم البعض، فالحسابات اليوم هي حسابات الناس الذين لدينا مصالح معهم، فلو نشب خلاف بين مؤمنين وأنت أحد الطرفين وجاءك الناس يتوسطون عندك ويقولون لك: في سبيل اللّه وعلى حساب اللّه تسامح في حقّك؟ إلا تقول: ما دخل اللّه في الأمر؟ أو: لا تدخلوا اللّه في هذا الحساب؟ ولكن لو قالوا لك: على حساب فلان، الذي هو رئيس عشيرة أو وجيه اجتماعي أو مسؤول سياسي، فأنت تتساهل وتلبي رغبتهم وكأن وجاهة فلان هي اليوم أكثر تقديراً عند بعض الناس من اللّه سبحانه وتعالى. أليس هذا هو الواقع الاجتماعي الذي نعيشه؟ .
فعلينا أن نعيد النظر في ذلك، لأنّنا نخشى - ونعوذ باللّه من ذلك - أن يكون الإيمان عندنا مجرّد شيء على السطح.