فــن الكتـابة ..
إذا كان للكتابة فن ، فان فنها هو في صياغة العبارة والجمل بأسلوب فصيح واضح يفهمه الناس ، وليس كاعتقاد وتصور بعض الكتاب في أن الفن الكتابي هو في إيراد الغريب من الألفاظ والمعقد من الجمل وملء الأسطر بالزخارف اللفظية ، وكأنه يريد بذلك تهويل الناس وترهيبهم على مدح فنه وحتى يقولوا له انه كاتب ( كبير ) !
وإذا كانت الكتابة هي نقل حركة الناس من الواقع ، ومن ثم صياغتها صياغة أدبية بالكلمات ، وإذا كان الناس لا يتصنعون أمامك أيها ( الكاتب ) في حركاتهم وتصرفاتهم ، فلا تتصنع أنت أيضاً بما تقدمه للناس من فنك الكتابي .
إن القران الكريم الذي يعتبر القمة السامقة التي لا تعلوها قمة في بلاغته وفصاحته وأسلوبه ، تراه يقدم الآيات الكريمة بوضوح تام وبشفافية رائعة ، فيصل إلى قلوب الناس وعقولهم بسهولة ويسر ، لوضوح آياته وبيانها ، لا لتعقيدها أو غرابة أسلوبها ..
وكذا فإن الإنسان ليقرأ لكبار الكتاب والأدباء ، فيرى الأسلوب الواضح السهل البيّن والعبارة الفصيحة الرصينة ، لان البعض الآخر من الكتاب يرى الإبداع في الخروج عن اللغة العربية الفصيحة وإبدالها بالعامية ، فيخرج نتاجه الكتابي مزعجاً ثقيلاً كئيباً غثاً ليس له من رائحة الأدب أو من طعمه شيء ، فيكون بعيداً عن الحس والذوق .
وأما من يظن أن الكتابة هي تسطير المعقد من الكلام ، ليخيف الأنام ، فاعلم انه كما قال الفقيه الشاعر ، صاحب القول السّاحر ، عائض القرني ، في مقاماته { وإذا سمعت المتكلم يتفصح ، ويتبجّح ، ويقول : إن الحقيقة تنطلق من أطر، وتنبثق من بوتقة ، وتنصهر في قوالب ، وتلعب دوراً ، فاعلم أنه قليل بضاعة ، ما مَدَّ إلى العلم باعه } .
ويقول مبيناً حال بعض المتقعرين ، وناصحاً لهم : { الشرائع السماوية خاطبت الجمهور بلغة قريبة سهلة ، لكن المشكلة أن البعض يصعّب العبارة ويعقّد المعلومة حتى لا يفهمه إلا نفرٌ يسير ، فإذا تكلم تقعَّر وتشدَّق ، والبياض إذا كثر أصبح برصاً ، وكان ينبغي على رجال العلم والثقافة وحملة الأقلام عموماً أن يتنزّلوا بخطابهم إلى جماهير الناس ، ولا ينتهي عجبي من كبار المثقفين وهم يلوكون مصطلحات لا يعرفها إلا ابن رشد وجان جاك روسو وفولتير } .
والذي يتأمل البلاغة مثلاً يجد أن من أساليبها التشبيه والكناية والمجاز والتقديم والتأخير ، ولكنه لن يجد من أساليبها أبداً إيراد الغريب من الألفاظ والمعقد من الكلمات .. مما يدل على أن البلاغة تكون في حسن النظم ووضع الكلمة في مكانها السليم الذي يؤدي الغرض ويبلغ الغاية .. وكذا فان الفصاحة بريئة من هذا التكلف والتعقيد أيضاً ..
ولذلك يجب أن نعلم أن الفن الكتابي من حيث موضوعه تعبير عن الناس ، حركتهم .. مشاعرهم .. آمالهم .. آلامهم .. طموحاتهم ، تعبير بأسلوب أدبي واضح ، بعيداً عن الزخرف اللفظي والتكلف ..
وان الفن الكتابي من حيث إنشائه هو اختيار للكلمات في مكانها الصحيح المؤثر في الناس ، وذلك بانتقاء الألفاظ والأساليب المناسبة لمستوى المخاطبين وليس إيراد الكلمات الصعبة ..
وأعجب لكتابة الشيخ عائض القرني الذي يكتب مقالات للناس بأسلوب واضح بيّن سلس ، ويُعطر كتاباته أحياناً بروحه الفكهة المرحة ، ولكن عندما تقرأ مقاماته مثلاً فترى فيها قمة من قمم الأدب ، وترى فيها درر اللغة وفرائدها ، والأسلوب الرصين الجميل ، ولكن ليس كل الناس من يقرأ { مقامات القرني } ..
_________________
لدينا قوة هائلة لا يتصورها إنسان ونريد أن نستخدمها في البناء فقط، فلا يستفزنا أحد!
نقاتل معا، لنعيش معا، ونموت معا!