بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله , وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم . أما بعد , فهذه فوائد مستنبطة من قصة يوسف صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء والمرسلين , فإن الله تعالى قصها علينا مبسوطة , وقال في آخرها : { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } [ سورة يوسف : الآية 111 ] والعبرة ما يعتبر به ويعبر منه إلى معان وأحكام نافعة وتوجيهات إلى الخيرات وتحذير من الهلكات ; وقصص الأنبياء كلها كذلك , لكن هذه القصة خصها الله بقوله : { لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين } [ سورة يوسف : الآية 7 ] ففيها آيات وعبر منوعة لكل من يسأل ويريد الهدى والرشاد , لما فيها من التنقلات من حال إلى حال , ومن محنة إلى محنة , ومن محنة إلى منحة , ومنه ومن ذلة ورق إلى عز وملك , ومن فرقة وشتات إلى اجتماع وإدراك غايات , ومن حزن وترح إلى سرور وفرح , ومن رخاء إلى جدب , ومن جدب إلى رخاء , ومن ضيق إلى سعة . إلى غير ذلك مما اشتملت عليه هذه القصة العظيمة , فتبارك من قصها ووضحها وبينها . فمن فوائد هذه السورة أن فيها أصولا لعلم تعبير الرؤيا , فإن علم تعبير الرؤيا علم عظيم مهم , مبناه على حسن الفهم , والعبور من الألفاظ والمحسوسات والمعنويات أو ما يناسبها بحسب حال الرائي وبحسب الوقت والحال المتعلقة بالرؤيا , وقد أثنى الله على يوسف عليه الصلاة والسلام بعلمه بتأويل الأحاديث , تأويل أحاديث الأحكام الشرعية والأحاديث المتعلقة بتعبير الرؤيا , والفرق بين الأحلام التي هي أضغاث أحلام لا تأويل لها مثل ما يراه من يفكر ويطيل تأمله لبعض الأمور , فإنه كثيرا ما يرى في منامه من جنس ما يفكر به في يقظته , فهذا النوع الغالب عليه إنه أضغاث أحلام لا تعبير له ; وكذلك نوع آخر ما يلقيه الشيطان على روح النائم من المرائي الكاذبة والمعاني المتخبطة فهذه أيضا لا تعبير لها , ولا ينبغي للعاقل أن يشغل بها فكره , بل ينبغي له أن يلهى عنها . وأما الرؤيا الصحيحة فهي إلهامات يلهمها الله للروح عند تجردها عن البدن وقت النوم , أو أمثال مضروبة يضربها الملك للإنسان ليفهم بها ما يناسبها . وقد يرى الشيء على حقيقته ويكون تعبيره هو ما رآه في منامه , فيوسف صلى الله عليه وسلم أعطاه الله من العلم ما يميز به بين المرائي الصحيحة والباطلة , والحق والباطل منها , وهذه القصة فيها الدلالة على تعبير الرؤيا من وجوه : أحدها رؤيا يوسف التي قصها على أبيه يعقوب صلى الله عليه وسلم : { إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين } [ سورة يوسف : الآية 4 ] ففسرها يعقوب صلى الله عليه وسلم بغاياتها وما تؤول إليه , وبوسائلها التي تتقدم عليها , ففسر الشمس والقمر بأبي يوسف وأمه , والكواكب الأحد عشر بإخوته , وأن الحال سيكون مآلها أن الجميع ليسجدون ليوسف ويخضعون له . ولهذا لما حصل الاجتماع ودخل أبوه وأمه وإخوته مصر , ورفع أبويه على العرش خر الجميع له سجدا وقال يوسف متذكرا ذلك التعبير والتفسير : { يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا } [ سورة يوسف : الآية 100 ] وهذا أمر عظيم تصل بيوسف الحال إلى أن يكون معظما تعظيما بليغا عند أبويه وإخوته , وكذلك عند الناس . وهذه الغاية تستدعي وسائل ومقدمات لا تحصل إلا بها , وهو العلم الكثير العظيم والعمل الصالح والإخلاص والاجتباء من الله والقيام بحق الله وحقوق الخلق . فلهذا قال في ذكر السبب الموصل لهذه الغاية الجليلة : { وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم } [ سورة يوسف : الآية 6 ] يعني لا بد أن يتم الله عليك نعمته بتعليم العلوم النافعة والأعمال الصالحة والاجتباء من الله , وحصول الأخلاق الجميلة والمقامات الجليلة , فتبشره بحصول هذه الأمور , ثم بالوصول إلى الرفعة في الدنيا والآخرة . وفي ضمن هذا التعبير من يعقوب ليوسف بشارة له وتسهيل لما سيناله من المشقات والكروب مع إخوته وفي السجن ; فإن من علم أن المكاره والمشقات تفضي إلى الخير والراحات تسلى وهانت عليه مشقتها وسهلت عليه وطأتها , وحصل بذلك من اللطف والروح بشيء عظيم . وهذا من جملة اللطف الذي أشار إليه يوسف في قوله : { إن ربي لطيف لما يشاء } [ سورة يوسف : الآية 100 ] وهذا من مقتضى حكمة الله أن المراتب العاليات لا تنال إلا بالوسائل الجليلة , ولهذا قال إن ربك عليم حكيم . ومن فوائد هذا التعبير لرؤيا يوسف بشارة عظيمة ليعقوب وأم يوسف وإخوته بحصول الرفعة والصلاح والخير , فيعقوب صلى الله عليه وسلم من أكابر الأنبياء وأفاضل الأصفياء , وأمه لها من الخير والصلاح والرفعة في الدنيا والآخرة حيث شبهت بالشمس أو بالقمر , على اختلاف القولين , وإخوة يوسف وإن كان قد جرى منهم في حق أبيهم وأخيهم من الأذية والعقوق والقطيعة ما جرى ولكن أباهم وأخاهم عفيا عنهم واستغفر الله لهم والله تعالى أرحم الراحمين . فالشمس والقمر والنجوم تضمنت النور والارتفاع , ولكنها متفاوتة في نورها بحسب التفاوت بين الأبوين وبين الإخوة , فالحاصل أن هذه الرؤيا تضمنت ما حصل ليوسف صلى الله عليه وسلم من خير الدنيا والآخرة والمقامات العظيمة والوسائل والمنن التي أوردتها هذه الأمور وما حصل لأبويه وإخوته من مشاركته في خير الدنيا والآخرة , والله تعالى أعلم . عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي
وأما رؤيا الفتيين حيث قال أحدهما : { إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه } [ سورة يوسف : الآية 36 ] فتلطفوا ليوسف أن يبلغهما بتأويل رؤياهما لما شاهدوا من إحسانه للأشياء وإحسانه إلى الخلق . ففسر رؤيا من رأى أنه يعصر خمرا أنه ينجو من سجنه ويعود إلى مرتبته وخدمته لسيده , فيعصر له العنب الذي يؤول إلى الخمر , وفسر رؤيا الآخر فيقتل ثم يصلب فتأكل الطير من رأسه . فالأول رؤياه جاءت على وجه الحقيقة , والآخر رؤياه جاءت على وجه المثال وأنه يقتل , ومع قتله يصلب ولا يدفن حتى تأكل الطيور من رأسه . وهذا من الفهم العجيب والغوص على المعاني الدقيقة , وذلك أن العادة أن المقتول يدفن في الحال ولا تتمكن السباع والطيور من الأكل منه . ففهم أن هذا سيقتل ولا يدفن سريعا حتى يصل إلى هذه الحال , وفي هذا من فضيحته وخزيته وسوء مصيره الدنيوي ما تقشعر منه الجلود وحيث علم أن هذه الرؤيا صحيحة , لا بد من وقوعها , قال لهما : { قضي الأمر الذي فيه تستفتيان } [ سورة يوسف : الآية 41 ] وهذا من كمال علمه للتعبير الذي لا يعبر عن ظن وتوهم وإنما يعبر عن علم ويقين . وأما المناسبة في ذلك في أن الطيور لا تقرب الحي وإنما تتناول الميت إذا لم يكن عنده أحد , وهذا إنما يكون بعد قتله وصلبه . ومن كمال يوسف ونصحه وفطنته العجيبة أنهما لما قصا عليه رؤياهما تأنى في تعبيرها ووعدهما بتعبيرها بأسرع وقت , فقال : { لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما } [ سورة يوسف : الآية 37 ] فوعدهما بتعبيرها قبل أول طعام يأتيهما من خارج السجن ليطمئنا ويشتاقا إلى تعبيرها , وليتمكن من دعوتهما قبل التعبير ليكون أدعى لقبول الدعوة إلى الله لأن الدعوة لهما إلى الله أهم من تعبير رؤياهما . فدعاهما إلى الله بأمرين : أحدهما بحاله وما هو عليه من الوصف الجميل الذي أوصله إلى هذه الحال الرفيعة , بقوله : { ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون } [ سورة يوسف : الآيتان 37 , 38 ] الأمر الثاني : دعاهما بالبرهان الحقيقي الفطري فقال : { يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } [ سورة يوسف : الآيتان 39 , 40 ] فإن من توحد بالكمال من كل وجه , وبالقهر للعالم العلوي والسفلي , المستحق للألوهية الكاملة , الذي خلق الخلق لعبادته وأمرهم بها وله الحكم على عباده في الدنيا والآخرة هو الذي لا ينبغي العبادة إلا له وحده دون المعبودات الناقصة المتفرقة , التي كل قوم يدعون إلهيتها , وليس فيها من معاني الإلهية شيء ولا استحقاق , وإنما هي أسماء اصطلحوا على تسميتها أسماء بلا معان فرأى صلى الله عليه وسلم دعوتهما إلى الله أولى بالتقديم على تفسير رؤياهما وأنفع لهما ولغيرهما .
وأما رؤيا الملك فإنه رأى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع بقرات عجاف وسبع سنبلات خضر يأكلهن ويستولي عليهم سبع سنبلات يابسات ضعيفات فهالته , وجمع لها كل من يظن فيه المعرفة فلم يكن عند أحد منهم علم بتعبيرها , وقالوا : { أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين } [ سورة يوسف : الآية 44 ] وبعد هذا تفطن الذي خرج من السجن لحالة يوسف وما هو عليه من العلم العظيم والعلم بالتعبير , وتفطن لوصيته التي أنساه الشيطان ذكر ربه لحكمة قد فصح أمرها , وأنه لا يخرج من السجن إلا بعد اشتهاره وتميزه العظيم على الناس كلهم بتعبير رؤيا الملك , فطلب هذا الرجل من الملك أن يرسله إلى يوسف , وأنه كفيل بمعرفة تفسيره فلما جاء يوسف قال له : { يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات } فإن الملك والناس معه أرسلوني إليك لتفسرها لهم وهم في انتظار ذلك متشوقين إليه غاية التشوق , ولهذا قال : { لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون } [ سورة يوسف : الآية 46 ] ما أهم الملك وأزعجه ولاعه , ففي الحال فسرها يوسف صلى الله عليه وسلم , وزادهم مع التفسير حسن العمل بها وحسن التدبير , فأخبرهم أن البقر السمان والسنابل السبع الخضرات هي سنون رخاء وخصب متواليات تتقدم على السنين المجدبات ; وأن البقر العجاف والسنابل اليابسات سنون جدب تليها , وأن بعد هذه السنين المجدبات عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون . وأنه ينبغي لهم في السنين المخصبات أن ينتهزوا الفرصة ويعدوا العدة للسنين الشديدات فيزرعون زروعا هائلة أزيد بكثير من المعتاد , ولهذا قال : { تزرعون سبع سنين دأبا } [ سورة يوسف : الآية 47 ] ومن المعلوم أن جميع السنين يزرع الناس , لكنه أراد منهم أن يزرعوا زروعا كثيرة ويبذلوا قواهم في كل ما يقدرون عليه , وأنهم يحتاطون في الغلات إذا حصلت بالتحصين والاقتصاد . فقال : { فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون } [ سورة يوسف : الآية 47 ] أي احفظوا الحاصلات من الزرع حفظا تسلم به من الفساد والسوس بأن تبقى في سنابلها ويقتصدون في هذه المدة مدة الرخاء فلا يسرفون في الإنفاق , بل يأكلون القليل ويحفظون الكثير . وإن بعد هذه السنين المخصبات سيأتي عليكم سبع سنين مجدبات شديدات , تشمل الديار المصرية وما حولها , وإنها تأكل ما قدم لها مما حفظ في سنين الخصب إلا قليلا مما تحصنون . ووجه المناسبة أنه كما تقدم أن الرؤيا تعبر بحال رائيها , والمناسبات المتعلقة بها فكالرائي لها الملك الذي تتعلق به أركان الرعية وأمورها , ولهذا كانت رؤياه ليست حاصة له , بل تشمل الناس والرعية . ووجه المناسبة في تفسير البقرات والسنابل بالسنين ظاهرا في البقر من وجهين : أحدهما أنها هي التي في الغالب يحرث عليها الأرض , والحروث والزروع وتوابعها تبع للسنين في خصبها وجدبها . والوجه الثاني : البقر من المواشي التي سمنها وعجفها تبع للسنين أيضا , فإذا أخصبت سمنت وإذا جدبت عجفت وهزلت ; وكذلك السنابل تزهو الزروع وتكمل وتنمو مع كثرة الماء والسنين المخصبات , وتضعف وتيبس مع السنين المجدبات , فكانت رؤياه في البقر والسنابل من أوصاف السنين وآثارها ومن ذكر الوسائل والغايات . فالحرث للأراضي وسيلة , ونمو الزرع وحصول السمن في المواشي هو الغاية من ذلك والمقصود . وأما قوله : { ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون } [ سورة يوسف : الآية 49 ] أي يحصل للناس فيه غيث مغيث , تعيد الأراضي خصبها , ويزول عنها جدبها , وذلك مأخوذ من تقييد السنين المجدبات بالسبع ; فدل هذا القيد على أنه يلي هذه السبع ما يزيل شدتها , ويرفع جدبها ; ومعلوم أن توالي سبع سنين مجدبات لا يبقي في الأرض من آثار الخضر والنوابت والزروع ونحوها لا قليلا ولا كثيرا , ولا يرفع هذا الجدب العظيم إلا غيث عظيم ; وهذا ظاهر جدا , أخذه من رؤيا الملك ومن العجب أن جميع التفاسير التي وقفت عليها لم يذكروا هذا المعنى , مع وضوحه , بل قالوا : لعل يوسف صلى الله عليه وسلم جاءه وحي خاص في هذا العام الذي فيه يغاث الناس وفيه يعصرون . والأمر لا يحتاج إلى ما ذكروه , بل هو ولله الحمد ظاهر من مفهوم العدد , وأيضا ظاهر من السياق . فإنه جعل هذا التعبير والتفسير توضيحا لرؤيا الملك . ثم اعلم أن رؤيا الملك وتعبير يوسف لها وتدبيره ذلك التدبير العجيب من رحمة الله العظيمة على يوسف وعلى الملك وعلى الناس . فلولا هذه الرؤيا وهذا التعبير والتدبير لهجمت على الناس السنون المجدبات قبل أن يعدوا لها عدتها فيقع الضرر الكبير على الأقطار المصرية , وعلى ما جاورها , فصار ذلك رحمة بهم وبغيرهم من الخلق . ألا ترى كيف شمل الجدب البلاد المصرية وشمل البلاد الشامية وفلسطين وغيرها حتى احتاجوا إلى الاكتيال من مصر , واحتاج يوسف أن يقدر للجميع , ويوزع عليهم توزيعا عادلا فيه الرفق بالجميع والإبقاء عليهم ؟ وكان هذا العلم العظيم من يوسف هو السبب الأعظم في خروجه من السجن وتقريب الملك له من اختصاصه به وتمكينه من الأرض يتبوأ منها حيث يشاء , وهذا من إحسانه , والله لا يضيع أجر المحسنين . ومع هذا الفضل فضل الله أعظم من ذلك , يصيب برحمته من يشاء ممن يختاره , ويختص ويجمع له خير الدنيا والآخرة .
ومن فوائد هذه القصة أنه يتعين على الإنسان أن يعدل بين أولاده . وينبغي له إذا كان يحب أحدهم أكثر من غيره أن يخفي ذلك ما أمكنه , وأن لا يفضله بما يقتضيه الحب من إيثار بشيء من الأشياء , فإنه أقرب إلى صلاح الأولاد وبرهم به واتفاقهم فيما بينهم ; ولهذا لما ظهر لإخوة يوسف من محبة يعقوب الشديدة ليوسف وعدم صبره عنه وانشغاله به عنهم سعوا في أمر وخيم , وهو التفريق بينه وبين أبيه . فقالوا : { ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين } [ سورة يوسف : الآيتان 8 , 9 ] وهذا صريح جدا أن السبب الذي حملهم على ما فعلوا بيوسف من التفريق بينه وبين أبيه هو تميزه بالمحبة , خلاف ما ذكر كثير من المفسرين أن يوسف أخبرهم برؤياه - فحسدوه لذلك فإنه مناف للآية الكريمة , وسوء ظن بيوسف حيث استكتمه أبوه فقال : { يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا } [ سورة يوسف : الآية 5 ] فيوسف أبر وأعقل من أن يخبرهم بها , ولكن كثير من الإسرائيليات تروج على كثير من الناس , مع أن أقل تأمل في النصوص الشرعية يعلمهم ببطلانها . والمقصود : أن الذي حمل إخوة يوسف على ما فعلوا هو تمييز يعقوب ليوسف , ومع هذا فلا يحل هذا الأمر الشنيع . وهم يعلمون أنه لا يحل لهم , ولكنهم قالوا : افعلوا هذا الجرم العظيم وتوبوا إلى الله بعده . فلهذا قالوا : { وتكونوا من بعده قوما صالحين } [ سورة يوسف : الآية 9 ] وهذا لا يحل أن يواقع العبد الذنب بأي حالة يكون , ولو أضمر أنه سيتوب منه , فالذنب يجب اجتنابه فإذا وقع وجبت التوبة منه . ولعل من حكمة الله ورحمته بيعقوب ما قدره عليه من الفرقة التي أحدثت له من الحزن والمصيبة ما أحدثت رفعة لمقاماته في الدنيا والآخرة , ولتكون النعمة عند حصول الاجتماع لها الموقع الأكبر والشكر الكثير والثناء على الله بها , وليصل ولده يوسف إلى ما وصل إليه من المقامات الجليلة , وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم , والله يعلم وأنتم لا تعلمون .
ومن فوائد الحث على التحرز مما يخشى ضره لقوله : { يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا } [ سورة يوسف : الآية 5 ] وما فيها من التأكيد عليهم في حفظه حين أرسله معهم ثم عند إرسال أخيه بنيامين بعد ذلك أخذ عهودهم ومواثيقهم على ذلك . فالإنسان مأمور بالاحتراز , فإن نفع فذاك , وإلا لم يلم العبد نفسه . ومنها أن من الحزم إذا أراد العبد فعلا من الأفعال أن ينظر إليه من جميع نواحيه ويقدر كل احتمال ممكن , وأن الاحتراز بسوء الظن لا يضر إذا لم يحقق بل يحترز من كل احتمال يخشى ضرره , ولو تضمن ظن السوء بالغير إذا كانت القرائن تدل عليه وتقتضيه , كما في هذه الآية , وكما قويت القرائن في قوله : { هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل } [ سورة يوسف : الآية 64 ] فإنه سبق لهم في أخيه ما سبق فلا يلام يعقوب إذا ظن بهم هذا الظن , وإن كانوا في الأخ الأخير لم يجر منهم تفريط ولا تعد .
ومنها الحذر من الذنوب , خصوصا الذنوب التي يترتب عليها ذنوب أخر ويتسلسل شرها , كما فعل إخوة يوسف بيوسف , فإنه نفس فعلهم فيه عدة جرائم في حق الله وفي حق والديه وقرابته وفي حق يوسف ; ثم يتسلسل كذبهم كلما جرى ذكر يوسف وقضيته أخبروا بهذا الكذب الفظيع ولهذا حين تابوا وخضعوا وطلبوا من أبيهم السماح : { قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين } [ سورة يوسف : الآية 97 ]
ومنها أن بعض الشر أهون من بعض ; فحين اتفقوا على التفريق بين يوسف وأبيه ورأى أكثرهم أن القتل يحصل به الإبعاد الأبدي : { قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين } [ سورة يوسف : الآية 10 ] فخفف به الشر عنهم ولهذا لما وردت السيارة الماء وأدلى واردهم دلوه تبشر بوجوده وقال : { هذا غلام } [ الآية 19 ] وكان إخوته حوله فقالوا : إنه غلام أبق منا ; وتبايعوا معهم : { وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين } [ الآية 20 ] وإنما قصدهم إبعاده والتأكيد على مشتريه منهم , صورة , أن يحتفظ به لئلا يهرب . ومن لطف الله أن الذي أخذه باعه في مصر على عزيزها , فحين رآه رغب فيه جدا وأحبه وقال لامرأته : { أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا } [ الآية 21 ] فبقي مكرما عندهم معفى عن الأشغال الشاقة وغيرها متجردا للخير . وهذا من اللطف بيوسف ولهذا قال : { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث } [ الآية 21 ] فكان تفرغه عند العزيز من أسباب تعلمه للعلوم النافعة ليكون أساسا لما بعده من الرفعة في الدنيا والآخرة . كما أن رؤياه مقدمة اللطف , وكما أن الله أوحى إليه حين ألقاه إخوته في الجب : { لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون } [ الآية 15 ] وهذه بشارة له بالنجاة مما هو فيه , وأنه سيصل إلى أن ينبئهم بأمرهم وهم لا يشعرون . وقد وقع ذلك في قوله : { هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون } [ الآية 89 ] إلى آخر الآيات . وألطاف المولى لا تخطر على البال , ومنها أن العبرة في حال العبد بكمال النهاية لا بنقص البداية , وذلك أن إخوة يوسف جرى منهم ما جرى من هذه الجرائم , لكن في آخر أمرهم ونهايته تابوا إلى الله , وطلبوا السماح من أخيهم يوسف ومن والديهم الاستغفار , فحصل لهم السماح التام والعفو الكامل فعفا الله عنهم وأوصلهم إلى الكمال اللائق بهم . قيل إن الله جعلهم أنبياء , كما قاله غير واحد من المفسرين في تفسير الأسباط : إنهم إخوة يوسف الاثنا عشر . وقيل بل كانوا قوما صالحين ; كما قاله آخرون ; وهو الظاهر , لأن المراد بالأسباط قبائل بني إسرائيل , وهو اسم لعموم القبيلة لأولاد يعقوب الاثني عشر فهم آباء الأسباط وهم من الأسباط ولهذا في رؤيا يوسف رآهم بمنزلة الكواكب في إشراقها وعلوها , وهذه صفة أهل العلم والإيمان والله أعلم . ولهذا تفسر رؤيا الشمس والقمر والكواكب بالعلماء والصالحين وقد تفسر بالملوك , والمناسبة ظاهرة ومنها تكميل يوسف صلوات الله عليه لمراتب الصبر , الصبر الاضطراري : وهو صبره على أذية إخوته وما ترتب عليها من بعده عن أبويه وصبره في السجن بضع سنين ; والصبر الاختياري : صبره على مراودة سيدته امرأة العزيز مع وجود الدواعي القوية من جمالها وعلو منصبها وكونها هي التي راودته عن نفسه وغلقت الأبواب وهو في غاية ريعان الشباب , وليس عنده من قرابته ومعارفه الأصليين أحد . ومع هذه الأمور , ومع قوة الشهوة , منعه الإيمان الصادق والإخلاص الكامل من مواقعة المحذور . وهذا هو المراد بقوله : { لولا أن رأى برهان ربه } [ الآية 24 ] فهو برهان الإيمان الذي يغلب جميع القوى النفسية فكان هو مقدم السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله , وهو رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله . ثم بعد ذلك راودته المرأة وراودته , واستعانت عليه بالنسوة اللاتي قطعن أيديهن فلم تحدثه نفسه , ولم يزل الإيمان ملازما له في أحواله حتى قال بعدما توعدته بقولها : { ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه } [ الآيتان 32 , 33 ] فاختار السجن على مواقعة المحظور ; ومع ذلك فلم يتكل على نفسه بل استغاث بربه أن يصرف عنه شرهن , فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن , إنه هو السميع العليم . وكما أنه كمل مراتب الصبر فقد كمل مراتب العدل والإحسان للرعية حين تولى خزائن البلاد المصرية , وكمل مراتب العفو والكرم حين قال له إخوته : { تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين } [ الآيتان 91 , 92 ] فارتقى صلى الله عليه وسلم إلى أعلى مقامات الفضل والخير والصدق والكمال , ونشر الله له الثناء بين العالمين .
ومنها أن الإخلاص لله تعالى أكبر الأسباب لحصول كل خير واندفاع كل شر , كما قال تعالى : { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين } [ الآية 24 ] وفي القراءة الأخرى المخلصين , أي الذين أخلصهم الله بخالصة ذكر الدار وهما متلازمتان , فأخلصهم لإخلاصهم له , فمن أخلص لله أخلصه وخلصه من الشرور , وعصمه من السوء والفحشاء .
ومنها ما دلت عليه القصة من العمل بالقرائن القوية من عدة وجوه ; منها : حين ادعت امرأة العزيز أن يوسف راودها , وقال : هي راودتني عن نفسي ; فشهد شاهد من أهلها ; أي حكم حاكم بهذا الحكم الواضح , وكانت قد شقت قميص يوسف وقت مراودتها إياه : { إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين } [ الآية 26 ] لأنه يدل على إقباله عليها وأن المراودة صادرة منه . { وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين } [ الآية 27 ] فكان هذا هو الواقع , لأنها تريده وهو يفر منها ويهرب عنها فقدت قميصه من خلفه , فتبين لهم أنها هي المراودة في تلك الحال ; وبعد ذلك اعترفت اعترافا تاما حيث قالت : { الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين } [ الآيتان 51 , 52 ] ومن العمل بالقرائن وجود الصواع في رحل أخيه وحكمهم عليه بأحكام السرقة لهذه القرينة القوية .
ومنها أنه ينبغي للعبد أن يبعد عن أسباب الفتن , ويهرب منها عند وقوعها , كما فعل يوسف حين راودته امرأة العزيز . واعلم أن كثيرا من المفسرين ذكروا في تفسير البرهان الذي رآه يوسف حين اعتصم عن الفاحشة إسرائيليات تنافي العقل والدين , وتعافي ما عليه الرسل من الكمال حيث قال بعضهم : تبدى له جبريل في الهوى , أو تبدى له يعقوب عاضا على إبهاميه أو ما أشبه ذلك من الأمور , التي لو حصلت على أفجر الناس لامتنع من فجوره , فكلها باطلة . وكذلك من الأقوال الباطلة ما قاله بعضهم في قوله : { ولقد همت به وهم بها } [ الآية 24 ] أي هم أن يضربها - وهذا تحريف ظاهر . وصاحب هذا القول أراد الفرار من الهم المعروف خشية أن يكون فيه نقص وتنقيص للأنبياء محذور في ذلك , فإن الهم والهوا ونحوها إذا قاومه العبد وقدم عليه الخوف والإيمان فهو كمال , كما قال تعالى : { ولمن خاف مقام ربه جنتان } [ سورة الرحمن : الآية 46 ] . وكما ثبت في الصحيح مرفوعا : من هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله حسنة كاملة - فإنه إنما تركها من جرائي , أي تركه لها لأجل الله خوفا من عقابه ورجاء لثوابه من أكبر العبادات والله أعلم .
ومنها ما عليه يوسف , صلوات الله عليه , من الجمال الظاهر الذي أخذ بلب امرأة العزيز وشغفها حبا . وحين رأته النسوة قطعن أيديهن وأكبرنه وقلن : { حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم } [ الآية 31 ] ومن الجمال الباطن وهو العفة والإخلاص الكامل والصيانة .
ومنها أنه ينبغي للعبد أن يلتجئ إلى الله عند خوف الوقوع في فتن المعاصي والذنوب , مع الصبر والاجتهاد في البعد عنها , كما فعل يوسف ودعا ربه قال : { وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين } [ الآية 33 ] وإن العبد لا حول له ولا قوة ولا عصمة إلا بالله , فالعبد مأمور بفعل المأمور وترك المحظور والصبر على المقدور مع الاستعانة بالملك الشكور .
ومنها فضل الإيمان الكامل واليقين والطمأنينة بالله وبذكره حيث اتصف بها يوسف صلى الله عليه وسلم فأوجبت له الثبات في أموره كلها والاشتغال فيما هو يصدره من وظائفه الحاضرة , وهو في أحواله وتنقلاته مطمئن القلب ثابت النفس ليس عنده قلق لبعده عن أبيه وأحبابه , مع ما يعلمه من شدة الشوق والحب المفرط بينه وبين والديه خصوصا أبوه يعقوب , وهو يعلم المكان الذي هو فيه ويتمكن من مراسلته , ولكن اقتضت حكمة الله أن لا يحصل اللقاء إلا في تلك الحال التي اشتدت مشقتها وعظمت شدتها , فأعانه الله وأيده بروح منه , وهذا من أجل ثمرات الإيمان .
ومنها أنه لا بأس بالاستعانة بالمخلوق في الأمور العادية التي يقدر عليها بفعله أو قوله وإخباره كما قال يوسف للذي ظن أنه ناج منهما : { اذكرني عند ربك } [ الآية 42 ] ومن كمال إخلاص يوسف وكمال خلقه أنه لم يعاتب هذا الذي وصاه أن يذكره عند ربه فنسي , وجاءه يسأله عن رؤيا الملك , فأجابه , ولم يعاتبه أو يعنفه أو يعامله بسوء خلق . وبحسن الخلق تحصل للعبد الحياة الطيبة العاجلة والآجلة .
ومنها أن الإنسان إذا وجهت له تهمة هو بريء منها لا يلام على طلب الطرق والوسائل التي يحصل بها الوضوح والبيان العام للناس , كما فعل يوسف صلى الله عليه وسلم مع طول مكثه لما جاءه الرسول يستدعيه للحضور عند الملك , قال : { ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن } [ الآية 50 ] إلى آخر الآية , حيث بان لكل أحد براءته التامة التي لا شبهة فيها فلم يخرج من السجن لمواجهة الملك إلا في حالة براءته وهيبته ورفعته وتعظيم منهم لعلمه وفضله ونزاهته عليه الصلاة والسلام .
ومن ذلك أن يوسف صلى الله عليه وسلم جمع لهم بين تعبير رؤيا الملك وبين ما ينبغي لهم أن يفعلوه ويدبروه في سنين الخصب , للاستعداد لسنين الجدب ; وحين قال له الملك : { إنك اليوم لدينا مكين أمين } [ الآية 54 ] أي تتمكن من أمور المملكة وتدابيرها , مفوض إليه الأمور لأمانته وكفاءته وكمال الثقة به , فالملك هو الذي ابتدأ توليته وتفويض الأمور إليه , وهو الذي اقترح أن يكون على خزائن الأرض وجبايتها وتصريفها لأجل عموم المصلحة , ولهذا قال : { اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم } [ الآية 55 ] أي أحفظ الحاصلات والغلات وأعلم كيفية تصريفها وتدبيرها , فحينئذ أعتني في سنين الخصب بالزروعات الهائلة وجباها في مخازنها , وفي سنبلها , وأجتهد في الاقتصاد في أكلهم أيام السنين الخصيبة لتتوفر الغلال ويكون لها النفع العام . فحين جاءت السنون المجدبات وعم الجدب للأقطار المصرية وما جاورها من الأقطار , وفني ما عند الناس جعلوا يقصدون مصر من كل جهة , جعل يكيل لهم كيل العدل والاقتصاد بحسب الحاجة , لا يزيد كل واحد على حمل البعير خوفا من ألا يحتاجه المحتكرون ويحصل الضرر على المحتاجين المعوزين . ولهذا من جملة ما عالج إخوة يوسف أباهم لإرسال بنيامين معهم أن قالوا : { ونزداد كيل بعير } [ الآية 65 ] أي إذا كان معنا حصل لنا زيادة كيل بعير لأن عائلة يعقوب كثيرون , يحتاجون إلى ميرة كثيرة , فحصل لهذه الأعمال الجليلة على يد يوسف نفع للخلق عظيم , وإزالة ضرورات ودفع حاجات وتهوين للشدات والكربات .
ومنها مشروعية الضيافة , وأنها من سنن الرسل , وقررتها هذه الشريعة لقول يوسف : { ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين } [ الآية 59 ]
ومنها أن استعمال الأسباب الواقية من العين أو غيرها غير ممنوع بل جائز , أو مستحب بحسب حاله , وإن كانت جميع الأمور بقضاء الله وقدره , لكن الأسباب الواقية أو الدامغة من قضاء الله وقدره , بشرط أن يفعلها العبد وهو معتمد على مسببها , لأن يعقوب عليه السلام حين أراد أن يوصي بنيه لما أرسل بنيامين معهم , قال : { يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت } [ الآية 67 ] وأخبر تعالى أنهم امتثلوا أمر أبيهم , وأن هذا الأمر لم يغن شيئا إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وهو شفقة الوالد على أولاده , والشريعة جاءت بإثبات الأسباب النافعة الدينية والدنيوية , والحث عليها , مع الاستعانة بالله , كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( احرص على ما ينفعك واستعن بالله ) .
ومنها جواز استعمال الحيل والمكايد التي يتوصل بها إلى حق من الحقوق الواجبة والمستحبة أو الجائزة , كما استعمل يوسف ذلك مع أخيه , حيث وضع السقاية في رحل أخيه , ثم أذن مؤذن بعد رحيلهم : { أيتها العير إنكم لسارقون } - إلى قوله - { فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك } [ الآيات : 70 - 75 ] فعمل مع أخيه هذا العمل ليتوصل به إلى بقائه عنده من غير شعور منهم . فلما تقرر عندهم أنه هو الذي أخذ الصواع استفتاهم عن حكم السارق في دينهم فقالوا : { جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه } [ الآية 75 ] أي جزاء السارق أن يتملكه المسروق منه ; فحكموا على أنفسهم هذا الحكم الذي هو المقصود ليوسف . ولو أجرى عليه حكم ملك مصر لكان له حكم آخر . فيسر الله هذا العمل وهذا الحكم ليبقى أخوه عنده . فالحيل التي على هذا النوع لا حرج فيها وإنما المحرم الحيل والمكايد التي يتوصل بها إلى إحلال المحرمات أو إسقاط الواجبات .
ومنها استعمال المعاريض عند الحاجة إليها ; فإن في المعاريض مندوحة عن الكذب , وذلك من وجوه , منها قوله : { ثم استخرجها من وعاء أخيه } [ الآية 75 ] ولم يقل سرقها ; وكذلك قوله : { معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده } [ الآية 79 ] ولم يقل : " من سرق متاعنا " . وإذا قيل : إن هذا اتهام للبريء . قيل : إنما فعل ذلك بإذن أخيه ورضاه ; وإذا رضي زال المحذور .
ومنها أن الإنسان لا يحل له أن يشهد إلا بما يعلم لقولهم : { وما شهدنا إلا بما علمنا } [ الآية 81 ] وإن العلم يحصل بإقرار الإنسان على نفسه , وبوجود المسروق ونحوه معه وفي يده أو رحله . وفيها أن وجود المسروق بيد السارق بينة وقرينة على أنه السارق , ولذلك حكم وحكموا على أخي يوسف بحكم السارق .
ومنها هذه المحنة العظيمة التي امتحن الله بها نبيه وصفيه يعقوب عليه السلام , حيث قضى بالفراق , بينه وبين يوسف , هذه المدة الطويلة التي يغلب على الظن أنها تبلغ ثلاثين سنة فأكثر , من ذلك أنه بقي مدة في بيت العزيز قبل السجن في الإمكان أن تكون من سبع السنين إلى العشر أو نحو ذلك , على وجه الحرص والحزر , ثم مكث بضع سنين في السجن , والأكثر أنها سبع سنين , ثم بعد خروجه دخلت السبع السنين المخصبات , فهذه نحو إحدى وعشرين سنة , ثم دخلت السبع المجدبات وتردد إخوة يوسف إليه مرات , والظاهر أن اللقاء كان في آخرها , فهذه تقارب الثلاثين ونحوها ; وهو في هذه المدة لم يفارق الحزن قلبه , وهو دائم البكاء حتى ابيضت عيناه من الحزن وفقد بصره وهو صابر لأمر الله , محتسب الثواب عند الله , قد وعد من نفسه الصبر , ولا شك أنه وفى بذلك . ولا ينافي ذلك قوله : { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله } [ الآية 86 ] فإن الشكوى إلى الله لا تنافي الصبر , وإنما ينافي الصبر الشكوى إلى المخلوق .
ومنها : إن الفرج مع الكرب . فإنه لما اشتد الكرب بيعقوب وقال : يا أسفي على يوسف , قال : { يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون } [ الآية 87 ] وهم حين دخلوا على يوسف وقفوا بين يديه موقف المضطر , فقالوا : { يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة } [ أي قليلة حقيرة لا تقع الموقع ] { فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين } [ الآية 88 ] فحينئذ لما بلغ الضر منتهاه من كل وجه , عرفهم بنفسه , فحصل بذلك البشارة الكبرى لأبويه وإخوته وأهلهم , وزال عنهم الضر والبأساء , وخلفه السرور والفرح والرخاء .
ومنها أن الله يبتلي أنبياءه وأصفياءه بالشدة والرخاء , والسرور والحزن , واليسر والعسر , ليستخرج منهم عبوديته في الحالين بالشكر عند الرخاء والصبر عند الشدة والبلاء , فتتم عليهم بذلك النعماء كما ابتلى يعقوب ويوسف , وكذلك غيرهم من أنبيائه وأصفيائه .
ومنها جواز إخبار الإنسان بما يجد , وما هو فيه من مرض أو فقر أو غيرهما على غير وجه التسخط , لقول إخوة يوسف : مسنا وأهلنا الضر - وأقرهم يوسف على ذلك .
ومنها فضيلة التقوى والصبر , وأن كل خير في الدنيا والآخرة فمن آثارهما , وأن عاقبة أهلهما أحسن العواقب , لقوله : { قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } [ الآية 90 ] وإن إخبار العبد من نفسه بحصول التقوى والصبر إذا كان صدقا وفي ذلك مصلحة من باب التحدث بنعمة الله . قال الله تعالى : { وأما بنعمة ربك فحدث } [ سورة الضحى : الآية 11 ] تشمل نعم الدنيا ونعم الدين , وأن الله يجمع للمتقين بين خير الدنيا والآخرة , كما في هذه الآية والآية السابقة وهي قوله : { نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون } [ الآيتان 56 , 57 ] وأنه ينبغي على العبد أن يتذكر في حال الرخاء والسرور حالة الحزن والشدة , ليزداد شكره وثناؤه على الله . ولهذا قال يوسف : { وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو } [ الآية 100 ]
ومنها أنه ينبغي للعبد أن يتضرع إلى الله دائما في تثبيت إيمانه , ويعمل الأسباب لذلك : يسأل الله حسن الخاتمة وتمام النعمة , ويتوسل بنعمه الحاصلة إلى ربه أن يتمها عليه , ويحسن له العاقبة , كما قال يوسف صلى الله عليه وسلم : { رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين } [ الآية 101 ] وليس هذا من يوسف تمنيا للموت , كما ظنه بعضهم , بل هو دعاء لله أن يحسن خاتمته ويتوفاه على الإسلام , كما يسأل العبد ربه ذلك كل وقت
ومنها ما من الله به على يوسف من حسن عفوه عن إخوته , وأنه عفا عما مضى ووعد في المستقبل أن لا يثرب عليهم , ولا يذكر منه شيئا لأنه يجرحهم ويحزنهم وقد أبدوا الندامة التامة ولأجل هذا قال : { من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي } [ الآية 100 ] ولم يقل : من بعد أن نزغهم , بل أضاف الفعل إلى الشيطان , الذي فرق بينه وبين إخوته . وهذا من كمال الفتوة وتمام المروءة .
ومنها ما في هذه القصة العظيمة من البراهين على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم حيث قصها على الوجه المطابق , وهو لم يقرأ من الكتب السابقة شيئا , ولا جالس من له معرفة بها , ولا تعلم من أحد , إن هو إلا وحي أوحاه الله إليه . ولهذا قال : { تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا } [ سورة هود : الآية 49 ] كما ذكر الله هذا المعنى في قصته وغيره من الأنبياء , لأن الغيوب نوعان ; أمور سابقة قد اندرس علمها نبأه الله بها , وأمور مستقبلة قد نبأه الله بها قبل أن تقع , فوقعت , ولا تزال تقع شيئا بعد شيء مطابقة لما أخبر به صلى الله عليه وسلم في كتاب الله وفي سنة رسوله , وكلها براهين على رسالته .
وفي قوله تعالى : { إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي } [ الآية 53 ] دليل على أن هذا وصف النفس من حيث هي , وأنها لا تخرج عن هذا الوصف إلا برحمة من الله وعناية منه , لأن النفس ظالمة جاهلة , والظلم والجهل لا يأتي منهما إلا كل شر , فإن رحم الله العبد ومن عليه بالعلم النافع وسلوك طريق العدل في أخلاقه وأعماله خرجت نفسه من هذا الوصف , وصارت مطمئنة إلى طاعة الله وذكره , ولم تأمر صاحبها إلا بالخير , ويكون مآلها إلى فضل الله وثوابه . قال تعالى : { يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي } [ سورة الفجر : الآيات 27 - 30 ] فعلى العبد أن يسعى في إصلاح نفسه وإخراجها من هذا الوصف المذموم , وهو أنها أمارة بالسوء , وذلك بالاجتهاد وتخلقها بأحسن الأخلاق وسؤال الله على الدوام , وأن يكثر من الدعاء المأثور : اللهم اهدني لأحسن الأعمال والأخلاق , لا يهدي لأحسنها إلا أنت , واصرف عني سيئ الأعمال والأخلاق , لا يصرف عني سيئها إلا أنت .
وفي تضاعيف القصة فضيلة العلم من وجوه كثيرة , وبيان أنه سبب الرفعة في الدنيا والآخرة , وسبب صلاح الدين والدنيا . فيوسف صلى الله عليه وسلم لم ينل ما نال إلا بالعلم , ولهذا قال له أبوه : { وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث } [ الآية 6 ] وامتن عليه وقت مكثه عند عزيز مصر بالتجرد للعلم , وحاز مقام الإحسان بالعلم , وخرج من السجن في حال العز والكرامة بالعلم , وتمكن عند ملك مصر واستخلصه لنفسه حين كلمه وعرف ما عنده من العلم ودبر أحوال الخلق في الممالك المصرية بإصلاح دنياهم وحسن تدبيره في حفظ خزائن الأرض وتصريفها وتوزيعها بالعلم , وعند نهاية أمره توسل إلى ربه أن يتولاه في الدنيا بالعلم , حيث قال : { رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين } [ الآية 101 ] ففضائل العلم وثمراته الجليلة العاجلة والآجلة لا تعد ولا تحصى .
وفيها أن شفاء الأمراض , كما يكون بالأدوية الحسية يكون بأسباب ربانية , بل يحصل بهذا النوع من أنواع الشفاء ما لا يحصل بغيره . فيعقوب عليه السلام , قد ابيضت عيناه من الحزن وذهب بصره , فجعل الله شفاءه وإبصاره بقميص يوسف حين ألقاه على وجهه , فارتد بصيرا لما كان فيه من رائحة يوسف الذي كان داء عينيه من حزنه عليه , فصار شفاؤه الوحيد مع لطف الله في قميص جسده . ومن قال : إن القميص من الجنة فليس عنده بذلك دليل , والله قادر على أن يشفيه من دون سبب , ولكنه حكيم , جعل الأمور تجري بأسباب ونظامات قد تهتدي العقول إلى معرفتها وقد لا تهتدي . ونظير ذلك أيوب صلى الله عليه وسلم ; وصل به المرض والضر إلى حالة تعذر منها الشفاء وأعيت الأطباء , فحيث أراد الله شفاءه أمره أن يركض برجله الأرض فأنبع له عينا باردة وأمره أن يشرب منها ويغتسل , فأذهب الله ما في باطنه وظاهره من هذا الضرر , وعاد كأحسن ما أنت راء . قال تعالى : { اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب } [ سورة ص : الآية 42 ] فهو تعالى يشفي العباد بأدوية وأسباب حسية وبأسباب ربانية معنوية : { وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو } [ سورة الأنعام : الآية 17 ] كما أنه تعالى يوجد الأشياء بأسباب حسية معلومة وبأسباب ربانية لا تهتدي العقول إليها , كما في معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء وآياته النفسية والكونية , وهو المحمود على هذا وعلى هذا .
ومنها جواز سؤال الخلق , خصوصا الملوك عند الضرورة لقول إخوة يوسف : { يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين } [ الآية 88 ] فإنهم سألوا المحاباة في المعاملة والصدقة بدون عوض , وإنما قلت : خصوصا الملوك لأن الملوك لا يسألون من أموالهم الخاصة وإنما يسألون من بيت المال الذي هو للمصالح العمومية , وأهم المصالح دفع ضرورة المضطرين .
ومن فوائد القصة أن الجهل - كما يطلق على عدم العلم - فإنه يطلق على عدم الحلم , وعلى ارتكاب الذنب , لقوله تعالى : { وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين } [ الآية 33 ] وقوله : { هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون } [ الآية 89 ] ليس المعنى في ذلك عدم العلم وإنما هو عدم العمل به , واقتحام الذنوب , ومنه قول موسى صلى الله عليه وسلم : { أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } [ سورة البقرة : الآية 67 ] وقوله : { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب } [ سورة النساء : الآية 17 ] وكل من عصى الله فهو جاهل باعتبار عدم العمل بالعلم , لأن العلم الحقيقي ما زال الجهل به وأوجب العمل .
ومنها قوله تعالى : { ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم } [ الآية 72 ] استدل به على ثلاثة أبواب من أبواب العلم : باب الجعالة , وباب الضمان , وباب الكفالة . لأن قوله : { ولمن جاء به حمل بعير } من نوع الجعالة , وهو أن يجعل شيئا معلوما أو مقاربا للمعلوم كحمل البعير , لأنه متعارف لمن يعمل له عملا معلوما وعملا مجهولا وهي جائزة لما فيها من مصلحة الجاعل والعامل , وقوله : { وأنا به زعيم } أي ضامن وكفيل , وهي من عقود التوثقة بالحقوق التي يتم بها توسيع المعاملات وإصلاحها .
ومنها : أن العمل بالشريعة فيه إصلاح الأرض والبلاد , واستقامة الأمور ; والعمل بالمعاصي من سرقة وغيرها فيها فساد ذلك . لقولهم : { تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين } [ الآية 73 ] وكم في القرآن من التصريح أن العمل بالمعاصي ومخالفة الرسل فساد للأرض , ومتابعة الرسل هو الصلاح المطلق , صلاح الدين والدنيا .
ومنها الدلالة على الأصل الكبير الذي أعاده الله وأبداه في كتابه : أن لكل نفس ما كسبت من الخير والثواب , وعليها ما اكتسبت من الشر والعقاب , وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى , لقوله : { معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون } [ الآية 79 ]
ومنها الحث على فعل الأسباب الجالبة للخيرات والحافظة من الكريهات ; وفي القصة مواضع تدل على هذا الأصل الكبير ; وتمام ذلك أن يقوم بالأسباب مستعينا بالله , واثقا به ; وقد عمل يعقوب عليه السلام الأسباب التي يقدر عليها في استحفاظ أولاده ليوسف , ثم لأخيه حين أرسله معهم , وقال مع ذلك : { فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين } [ الآية 64 ] وكذلك على العبد إذا همته المصائب وحلت به النكبات عليه أن يصبر ويستعين بالله على ذلك . قال يعقوب صلى الله عليه وسلم حين عمل إخوة يوسف ما عملوا بيوسف , وحلت به المصيبة الكبرى : { والله المستعان على ما تصفون } [ الآية 18 ] وذلك أن الصبر على الطاعات . والصبر عن المحرمات والصبر على المصيبات لا يتم وينجح صاحبه إلا الاستعانة بالله , وأن لا يتكل العبد على نفسه . قال يوسف : { وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين } [ الآية 33 ]
الفصل الثامن الإرشاد إلى طريق الجدال النافع والمقابلة بين الحق والباطل ومن فوائد القصة الإرشاد إلى طريق نافع من طرق الجدال , والمقابلة بين الحق والباطل , وهو بيان ما في الحق من الخير والمنافع العاجلة والآجلة , وما في الباطل من ضد ذلك . قال تعالى في دعوة يوسف للتوحيد : { يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار } [ الآية 39 ] فذكر ما في الشرك من القبح وسوء الحال واتباع الظنون الباطلة , وأن كل طائفة من الشرك لهم معبود , إما نار أو صنم أو قبر أو ميت , أو غير ذلك من المعبودات المتفرقة التي لا تملك لنفسها ولا لأهلها نفعا ولا ضرا , ولا موتا ولا حياة ولا نشورا . وكل طائفة تضلل الأخرى , وكلهم ضالون هالكون , فهل هذه الأرباب والمعبودات خير أم الله الواحد القهار ؟ فذكر له ثلاثة أوصاف عامة عظيمة : أنه الله الذي له الأسماء والصفات العليا , ومنه النعم كلها وبذلك استحق أن يكون الله المألوه , إله أهل الأرض وأهل السماء , وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وأنه الواحد المتفرد بكل صفة كمال , المتوحد بنعوت الجلال والجمال , الذي لا شريك له في شيء من الأفعال ; وأنه القهار لكل شيء ; فجميع العالم العلوي والسفلي كلهم مقهورون بقدرته , خاضعون لعظمته , متذللون لعزته وجبروته , فمن هذه صفاته العظيمة هو الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده , لا شريك له .
ومنها : أن الدين المستقيم , الذي عليه جميع الرسل وأتباعهم هو عبادة الله وحده لا شريك له , لقوله : { إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم } [ الآية 40 ] فهو الدين المستقيم , المقيم للعقائد والأخلاق والأعمال , الذي لا تستقيم أمور الدين والدنيا إلا به .
ومنها وجوب الاعتراف بنعم الله الدينية والدنيوية , لقوله : { ذلك من فضل الله علينا } [ الآية 38 ] فهو الذي من بالعافية والرزق وتوابع ذلك , وهو الذي من بنعمة الإسلام والإيمان والطاعة وتوابع ذلك , فعلى العبد أن يعترف بها بقلبه , ويتحدث بها ويستعين بها على طاعة المنعم .
ومنها أن الإحسان في عبادة الله والإحسان إلى العباد سبب ينال به العلم وتنال به خيرات الدنيا والآخرة ; لقوله : { ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين } [ الآية 22 ] وقوله : { نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون } [ الآيتان 56 , 57 ] فجعل الله الإحسان سببا لنيل هذه المراتب العالية .
ومنها أن النظر إلى الغايات المحبوبة يهون المشاق المعترضة في وسائلها , فمتى علم العبد عاقبة الأمر وما يؤول إليه م