السلام عليكم
سئل شَيْخ الإسْلام قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَه وهو بمصر عن
[عذاب القبر] : هل هو على
النَّفْس والبَدن أو على النفس دون البدن؟ والميت يعذب في قبره حيًا أم ميتًا؟
وإن عادت الروح إلى الجسد أم لم تَعُدْ، فهل يتشاركان في العذاب والنعيم؟
أو يكون ذلك على أحدهما دون الآخر؟
فأجاب رحمه اللَّه: الحمد للّه رب العالمين.
بل العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعًا باتفاق أهل السنة
والجماعة، تنعم النفس وتعذب منفردة عن البدن، وتعذب متصلة بالبدن والبدن متصل
بها، فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعتين، كما يكون للروح
منفردة عن البدن. ثم قال: اعلم أن مذهب سلف الأمة وأئمتها: أن الميت إذا مات
يكون في نعيم أو عذاب، وأن ذلك يحصل لروحه ولبدنه، وأن الروح تبقى بعد مفارقة
البدن منعمة أو معذبة، وأنها تتصل بالبدن أحيانًا، فيحصل له معها النعيم
والعذاب.
ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أعيدت الأرواح إلى أجسادها، وقاموا
من قبورهم لرب العالمين.
ومعاد الأبدان متفق عليه عند المسلمين، واليهود،
والنصارى.
وهذا كله متفق عليه عند علماء الحديث والسنة.
وهل يكون للبدن دون
الروح نعيم أو عذاب؟ أثبت ذلك طائفة منهم، وأنكره أكثرهم.
ونحن نذكر ما
يبين ما ذكرناه.
فأما أحاديث عذاب القبر ومسألة منكر ونكير: فكثيرة متواترة
عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثل ما في الصحيحين: عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم
مرَّ بقبرين فقال: "إنهما ليُعَذَّبان وما يُعَذَّبان في كبير، أما أحدهما
فكان يمشى بالنَّمِيمة، وأما الآخر فكان لا يَسْتَتِر من بَوْله، ثم دعا
بجريدة رطبة فشقها نصفين، ثم غرز في كل قبر واحدة. فقالوا: يا رسول اللّه،
لم فعلتَ هذا؟ قال: لعله يُخفَّف عنهما ما لم يَيبَْسَا".
وفي صحيح مسلم عن
زيد بن ثابت قال"بينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلة ونحن معه إذ
جالت به، فكادت تلقيه، فإذا أقبر ستة أو خمسة، أو أربعة. فقال: من يعرف
هذه القبور؟ فقال رجل: أنا. قال: فمتى هؤلاء؟ قال: ماتوا في الإشراك.
فقال: إن هذه الأمة تبتلى في قبورها؛ فلولا ألا تدافنوا لدعوت اللّه أن
يُسِمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: تَعوَّذوا
باللّه من عذاب القبر.قالوا: نعوذ باللّه من عذاب القبر. قال: تعوذوا
باللّه من عذاب النار.قالوا: نعوذ باللّه من عذاب النار. قال: تعوذوا باللّه
من الفتن ما ظهر منها وما بطن. قالوا: نعوذ باللّه من الفتن ما ظهر منها وما
بطن. قال: تعوذوا باللّه من فتنة الدجال. قالوا: نعوذ باللّه من فتنة
الدجال"..
وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي أيوب الأنصاري قال"خرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد
وجَبَتِ الشمس، فقال: يهود يعذبون في قبورهم" [وجَبَت الشمس،أي غابت].
وفي
الصحيحين عن عائشة رضي اللّه عنها قالت "دخلت علىّ عجوز من عجائز يهود المدينة،
فقالت: إن أهل القبور يعذبون في قبورهم. قالت: فكذبتها ولم أنْعَمْ أن
أصدقها، قالت: فخرجت فدخل عليَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، فقلت: يا رسول اللّه، عجوز
من عجائز أهل المدينة دخلت علىّ، فزعمت أن أهل القبور يعذبون في قبورهم. فقال:
صَدَقَتْ، إنهم يعذبون عذابًا يسمعه البهائم كلهافما رأيته بعد في صلاة إلا
يتعوذ من عذاب القبر".
وهذا الحديث قد رواه أهل السنن والمسانيد مطولًا، كما
في سنن أبي داود وغيره عن البراء بن عازب رضي اللّه عنه قال"خرجنا مع رسول
اللّه صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلس النبي
صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله , كأنما على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به الأرض، فرفع
رأسه فقال: استعيذوا باللّه من عذاب القبرمرتين أو ثلاثا، وذكر صفة قبض
الروح وعروجها إلى السماء، ثم عودها إليه. إلى أن قال: وإنه ليسمع خَفْقَ
نعالهم إذا وَلُّوا مدبرين حين يقال له : يا هذا، من ربك؟ وما دينك؟ ومن
نبيك؟ ".
فقد صرح الحديث بإعادة الروح إلى الجسد، وباختلاف أضلاعه، وهذا بين
في أن العذاب على الروح والبدن مجتمعين.
وحديث البراء المتقدم أطول ما في
السنن، فإنهم اختصروه لذكر ما فيه من عذاب القبر، وهو في المسند وغيره
بطوله.
وفي الصحيحين عن قتادة عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه، إنه ليسمع خَفْق نعالهم، أتاه
ملكان فيقررانه. فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد؟ فأما المؤمن
فيقول: أشهد أنه محمد عبد اللّه ورسوله.قال: فيقول: انظر إلى مقعدك من
النار قد أبدلك اللّه به مقعدًا من الجنة". قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : "فيراهما
كليهما". قال قتادة: وذكر لنا أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعًا، ويملأ عليه
خضرًا إلى يوم يبعثون.
ثم نرجع إلى حديث أنس: "ويأتيان الكافر والمنافق
فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنت أقول كما يقول
الناس. فيقول: لا دريت ولا تليت. ثم يضرب بمطارق من حديد بين أذنيه، فيصيح
صيحة فيسمعها من عليها غير الثقلين".
وروى الترمذي وأبو حاتم في صحيحه وأكثر
اللفظ له عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : "إذا قبر أحدكم
الإنسان، أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لهما: منكر والآخر نكير. فيقولان
له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد؟ فهو قائل ما كان يقول، فإن كان مؤمنًا
قال: هو عبد اللّه ورسوله، أشهد أن لا إله إلا اللّه، وأشهد أن محمدًا عبده
ورسوله. فيقولان: إنا كنا لنعلم أنك تقول ذلك.
ثم يفسح له في قبره سبعون
ذراعًا، وينور له فيه، ويقال له: نم. فيقول: أرجع إلى أهلي فأخبرهم.
فيقولان له: نم، كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه، حتى يبعثه
اللّه من مضجعه ذلك. وإن كان منافقًا قال: لا أدري، كنت أسمع الناس يقولون
شيئًا فقلته. فيقولان: إنا كنا نعلم أنك تقول ذلك. ثم يقال للأرض: التئمي
عليه، فتلتئم عليه، حتى تختلف فيها أضلاعه، فلا يزال معذبًا حتى يبعثه اللّه
من مضجعه ذلك"وهذا الحديث فيه اختلاف أضلاعه وغير ذلك، مما يبين أن البدن نفسه
يعذب.
وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا احتضر الميت أتته
الملائكة بحريرة بيضاء. فيقولون: اخرجي كأطيب ريح المسك، حتى إنه ليناوله
بعضهم بعضًا، حتى يأتوا به باب السماء، فيقولون: ما أطيب هذا الريح متى
جاءتكم من الأرض ؟ فيأتون به أرواح المؤمنين، فَلَهُمْ أشد فرحًا به من أحدكم
بغائبه يقدم عليه، يسألونه: ماذا فعل فلان؟ فيقولون: دعوه، فإنه في غم
الدنيا، فإذا قال: إنه أتاكم. قالوا: ذهب إلى أمه الهاوية. وإن الكافر إذا
احتضر أتته ملائكة العذاب بمسح. فيقولون: اخرجي مسخوطًا عليك إلى عذاب اللّه،
فتخرج كأنتن جيفة، حتى يأتوا به أرواح الكفار".
رواه النسائي والبزار
ورواه مسلم مختصرًا عن أبي هريرة رضي اللّه عنه.
وعند الكافر ونتن رائحة
روحه، فرد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رِيطَة كانت عليه على أنفه هكذا.
[ والرِّيطةُ:
ثوب رقيق لين مثل الملاءة].
وأخرجه أبو حاتم في صحيحه وقال: "إن المؤمن إذا
حضره الموت حضرت ملائكة الرحمة، فإذا قبضت نفسه جُعِلت في حريرة بيضاء،
فتنطلق بها إلى باب السماء، فيقولون: ما وجدنا ريحًا أطيب من هذه الرائحة،
فيقال: دعوه يسترح، فإنه كان في غم الدنيا، فيقال: ما فعل فلان، ما فعلت
فلانة؟ وأما الكافر إذا قبضت روحه ذهب بها إلى الأرض تقول خزنة الأرض: ما
وجدنا ريحًا أنتن من هذه، فيبلغ بها في الأرض السفلى".
ففي هذه الأحاديث
ونحوها اجتماع الروح والبدن في نعيم القبر وعذابه، وأما انفراد الروح وحدها
فقد تقدم بعض ذلك.
وعن كعب بن مالك رضي اللّه عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما
نَسَمَة المؤمن طائر يَعْلُقُ في شجر الجنة حتى يرجعه إلى جسده يوم يبعثه".
رواه النسائي، ورواه مالك والشافعي كلاهما [نسمة المؤمن: أي روحه].
[ وقوله:
[يَعْلُق] بالضم أي: يأكل] ، وقد نقل هذا في غير هذا الحديث.
فقد أخبرت
هذه النصوص أن