وصلت البيت استلقيت على السرير لآخذ قسطا من الراحة بعد يوم من العمل الذي كان شاقا بعض الشيء ..رن الهاتف ..مرحبا رفيق ..مرحبا من أنت؟ ..أنا سمير أريد أن تذهب معي إلى بيت الحاج عمار لنقدم التعازي لهم بفقدانهم ابنهم محسن..فبحكم قرابتك لهم تستطيع مرافقتي...فقلت له: أرجوك أنا متعب من العمل ولا أريد الذهاب حيث تهيج أحزاني..ولكنه ألح في الطلب مما جعلني أقبل الذهاب معه حيث تتراكم الأحزان..إلى حيث كنت سأذهب مرغما لأني كلما رأيت ذلك المكان عدت إلى الوراء...حيث الماضي الجميل...إلى الماضي الذي اندثر..فأصبحت ذكرياته حزينة
وصلت حيث اتفقت مع صديقي على اللقاء لنذهب إلى بيت عمار للتعزية...كنا نسير في الطريق وكان صديقي يشغلني بالكلام حتى لا أعود بذكرياتي إلى الوراء من خلال المناظر التي أشاهدها في طريقي وفعلا كنت أتجنب النظر من خلال نوافذ السيارة حتى وصلنا إلى البيت ودخلنا إلى الداخل فاستقبلنا عمار بحفاوة وجلسنا نتحدث ..كان متجلدا صابرا رغم الألم الذي كنت أحس به يخرج مع كلماته ..ويبتسم من الحين إلى الآخر ويرتشف من فنجان القهوة التي أمامه أحيانا...أما أنا فدخلت إلى الداخل لأرى أم محسن بحكم قرابتي لها...كانت عيناها حمرا وتين من البكاء...وجهها أصفر من التعب وقلة النوم حزنا على ولدها..كان منظرها مبكيا ...لكني تجلدت وبدأت أقدم التعازي وبعض المواعظ التي أعرفها وأخبرها بأن ابنها ليس أول من رحل من هذه الدنيا وأن الكثيرين من أمثاله قد رحلوا والزمن كفيل بأن ينسيها إياه..فهذه هي الدنيا ..أفراح وأحزان...مثلما حزنت في هذا اليوم ستفرحين في يوم آخر وهذه هي حكمة الله
نظرت نحوي وقالت: لن أنسى ذلك اليوم ما حييت..لن أنسى تلك الصبيحة المؤلمة عندما استيقظت من النوم ..كنت أحس بألم يعتصر قلبي وكأنني كنت أحس أن مكروها سيقع ..كنت أنظر إلى أولادي وقلبي يحدثني بأني سأودع اليوم واحدا منهم...قبلتهم جميعا قبل أن يخرجوا من البيت ...ولما خرجوا تبعتهم إلى الخارج لألقي عليهم نظرة....بقي محسن متأخرا..فسألته ماذا تريد يا محسن؟ هل أنت مريض هل تحس بشيء...لما لم تذهب مع إخوتك؟... فقال: أظن أني لا أريد الذهاب .. فقلت له: لماذا يا ولدي ..فعليك أن تذهب إلى المدرسة للتعلم...لقد قلت هذه الكلمة وقلبي يرتجف وكبدي يحترق...لم أعرف لما أصابني هذا الإحساس...كنت خائفة ...ربما هو إحساس الأم بالخطر على ابنها...نعم لقد صدق ظني ..فما إن قبلته وودعته حتى جاءني الخبر المشؤوم ...محسن رحل إلى الأبد..وبدأت تبكي ..فقلت لها ...لا تحزني فهذا قدر الله ....هذا ما كتبه الله له...كما أن ابنك طير من طيور الجنة...كما أن الموت كأس كل الناس شاربه...فقالت: الذنب ذنبي أنا من تركت ولدي يذهب ولو بقي عندي لما وقع الحادث...كان لا يريد الذهاب ..أنا من أرغمه على ذلك...أنا السبب...وتضع كفيها على وجهها وهي تبكي....فأمسكت مصحفا كان بالقرب مني وقلت لها : أتعرفين ما هذا ؟..فقالت هذا كلام الله ..فقلت لها وتؤمنين به فقالت: طبعا وهل في ذلك شك؟.....فتحت المصحف على آية( وكل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) ثم فتحتها على آية أخرى ( إن كل شيء خلقناه بقدر).....وبعض آيات القرآن الكريم التي كانت عزاءا لها ولنا...هذه هي الدنيا لو كتب لأحد الخلود لكان الرسول صلى الله عليه وسلم أولى به...ولكن كما كانت هناك الحياة يكون هناك الموت..فعلينا الرضا بالقضاء والقدر....وما خرجت من ذلك المكان حتى مسحت دموعها وعلمت أن ما أصابها كان من عند الله وعليها الرضا به...ولكن ذلك يحتاج لوقت كي تنساه
رجعت مع صديقي إلى المنزل ... أول مرة وجدت العزاء..كان بقربي ولكني لم أكن أراه...بل تجاهلته ..إنه كلام الله ..الشيء الوحيد الذي وجدت فيه العزاء...فكان خير عزاء