التائه (قصة قصيرة)

نزل من الحافلة مسرعا ًمتعثراً في خطواته,بعد أن أفرغ كل ما في جيبه لمراقب التذاكر , ووقف تحت شجرة كبيرة يحك يديه ببعضهما لعلّ حرارة الاحتكاك البسيطة تدفئه من تلك الرعشة التي سرت في جسده من شدة البرد..
كان المطر يهطل بخفة,ورغم ذلك تخللت قطراته أوراق و أغصان الشجرة, وبحركة لا ارادية لملم اطراف معطفه ليقي نفسه من قطرات المطر الدخيلة. وشيئاً فشيئاً ظل المطر يزداد , وبدأ البرق يلمع في الأفق ليشق طريقه بسهولة بين السحب الملبدة كأنه فرحاً لأنه سبق الرعد الذي زمجر بقوة لتأخره, وبعد أن تردد دوي الرعد هرول الى الناحية الأخرى من الطريق,حيث توجد شرفة بارزة , خوفاً من ان تغري الشجرة البرق فينجذب البرق اليها ويحترق هو بنارها...
تعالت زمامير السيارات وهو ينظر يمينا و شمالاً , و يتأمل وجوه سائقي السيارات وهم مسرعين عائدين من اشغالهم بعد يوم شاق , وبدأ يطلق العنان لخياله في الراحة والدفء و أطباق الأكل الشهية التي سيجدونها عندما يصلون الى بيوتهم.
قد لا يكون جميعهم سعداء لكنه على ثقة كبيرة من أنهم في حالة أفضل من حالته المزرية , هذه الحالة التي انتهت به الى قارعة الطريق. ثم دسّ يديه داخل جيبي معطفه فهي الشئ الوحيد الذي يضم يديه ويدفئهما بعد أن فقد ذلك الصدر الحنون منذ صغره , وصار البرد والجوع والخوف رفقاء له , ناهيك عن الكلمات المحطمة التي كثيراً ما ترددها على مسامعه زوجة أبيه لتشعره بالنقص ولتحط من قدره وكذلك تصرفاتها التي ضاق ذرعاً بها فترك البيت ورحل عنه, لكنه أفاق من تخيلاته عندما تسللت رائحة دخان الى انفه , فلم يستطع منع نفسه من اختلاس النظر الى مصدر الدخان ...
كان الرجل اشعث الشعر ,وملابسه غير مرتبة, وتحيط به هالة من الدخان,نظر الرجل المدخن اليه وبعد لحظة مدّ له سيجارة فأخرج يده من جيبه و أخذ السيجارة بعد أن أشعلها له ذلك الرجل الذي لم تخف عنه رعشة يديه , التي قد تكون بسبب البرد وقد تكون من الجوع الذي جعل من الأصوات الصادرة من معدته أعظم سمفونية تعزف..لما لا؟فهو لم يتناول الطعام منذ فترة , وهنا شعر بالوقت الطويل الذي مضى عليه و هو واقفاً , ثم نفث الدخان بقوة , معبراًعما يختلج في نفسه من حيرة , فتارة ينظر الى الرجل المدخن ويبتسم له وتارة يسأل نفسه لماذا تجردت الدنيا المحيطة به من كل معاني الحب ..؟
أنت ..! هكذا قطع الرجل المدخن حبل أفكاره, ليخبره بأن هناك حافلةفي الناحية الأخرى من الطريق . نظر الرجل المدخن اليه فرأى الحيرة في عينيه وظن بأنه لا يملك النقود, فأخبره بأنه سوف يدفع ثمن التذكرة , لكنه لم يعرف أن سبب حيرته إنه لا يعرف أين يذهب أيضاً ..
تقدم الرجل المدخن أمامه عدة خطوات ثم تبعه , لكنه لم ير سوى ذلك اللون الأحمر , ولم يسمع سوى صوت فرامل السيارة !وبعد لحظة صمت و ذهول نزل من السيارة شاب ثملاً يترنح , كانت المسافة عليه طويلة ليصل الى مقدمة سيارته لينظر الى أضرارها لا الى ذلك الشخص الذي داسه , ذلك الشخص الذي أراحته عجلات السيارة من عناء البحث عن مكان يلتجأ اليه .